تحت تأثير أيدلوجيات مختلفة صُنِّفت المِثلية الجنسيَّة على مر عصور كثيرة كمرض، أو اضطراب نفسي، أو اختيار شخصي. في البداية سنناقش ما توصل إليه العِلم الحديث بشيء من التفصيل عن المِثلية الجنسية؛ ما هي؟ وما أسبابها؟
ما هي المِثلية الجنسية؟
المِثلية الجنسية: هي الشعور بالانجذاب العاطفي تجاه شخص من نفس الجنس، وهي لا تقتصر على ممارسة الجنس فقط، فيمكن أن يكون إحداهما أو كلاهما معًا.
وقد يُعد إخلالًا بالمعنى أن نَصِف المِثلية الجنسية على أنها شذوذ جنسي؛ لأن التوجه المِثلي هو أمر شائع في الطبيعة؛ فهي مُنتشرة بكثرة بين مملكة الحيوانات بمُختلف تصنيفاتها وأنواعها، بل إنّ بعض الدراسات تُشير إلى وجود توجهات مِثلية عند بعض أنواع الحشرات!

في القرن الـ 19 ظهرت العديد من النظريات حول المِثلية الجنسية ولكن لم يكن لها أي دليل تجريبي أو اتساق مع بعضها البعض أو مع الواقع.
في أواخر أربعينات القرن الماضي، أجرى عالِم البيولوجيا «ألفريد كينسي – Alfred Kinsey» دراساته حول التوجه الجنسي للمثليين، وأظهرت النتائج أنَّ للمِثلية الجنسية درجات مُتفاوتة، و قام بوضع ما يُعرف باسم «سلم كينسي – Kinsey scale» الذي يتدرّج من (0) إلى (6) بحيث أن:
(0): تعني أن الشخص مُغاير الجنس تمامًا (Heterosexual/Straight) ولا يميل بأي درجة إلى المِثلية.
(1): تعني أن الشخص في الغالب مُغاير الجنس وقليل الميل نحو المِثلية الجنسية «مثلي عرضيًا»
(2): تعني أن الشخص في الغالب مُغاير الجنس وأكثر ميل -قليلًا- نحو المثلية الجنسية «مثلي أكثر عرضيًا»
(3): تعني أن الشخص له ميول جنسية مزدوجة (Bisexual).
(4): تعني أن الشخص في الغالب مِثلي الجنس وأكثر ميل -قليلًا- للمُغايرة الجنسية «مغاير أكثر عرضيًا»
(5): تعني ان الشخص في الغالب مِثلي الجنس وقليل الميل نحو المُغايرة الجنسية «مُغاير عرضيًا»
(6): تعني أن الشخص مِثلي الجنس تمامًا (Homosexual) ولا يميل بأي درجة إلى المُغايرة.
(X): وهي إشارة تمت إضافتها لاحقًا لسُلم كنزي للدلالة على ان الشخص لا جنسي (Asexual) أي ليس لديه توجه جنسي على الإطلاق أو رغبة في أي من الجنسين.
يبدأ الإحساس بالميل العاطفي نحو أفراد نفس الجنس في مرحلة الطفولة، ويتطور تصاعدًا حتى مرحلة المُراهقة، وما بين الضغوط المُجتمعية الخارجية والشعور الداخلي بالاختلاف؛ يظل الشخص في حالة مِن الحيرة والقلق حيال توجهاته ومشاعره، وخلال هذه الفترة أظهرت بعض الدراسات ارتفاعًا ملحوظًا في نِسب الانتحار بين المُراهقين، وأرجعت السبب في ذلك إلى الأعراف الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم، وخوف الشخص من ردة فعل المُجتمع نحوه، وما قد يتبعها من اضطهاد أو تمييز أو عنف أو قتل أحيانًا!
وتَقِل هذه النِسب كلما كان المُجتمع أكثر انفتاحًا وتقبلاً للمثليين.
وكنتيجة منطقية، تستبعِد مِثل الدراسات في هذه الحالة -وغيرها كما سنرى- أن تكون المِثلية الجنسية اختيارًا شخصيًا نابعًا عن إرادة حرة؛ فلا يوجد سبب يُجبر الشخص على إختيار توجهه الجنسي في مٌقابل تحمُّل ضغوط نفسية مُجتمعية، وتقبُّل التمييز العنصري ضده، يقوده في النهاية إلى الانتحار!
– العامل الجيني والمراحل الأولى في تكوين الأجنة:
في دراسة تمت على عدد من التوائم؛ أظهرت نتائجها على التوأم غير المتماثل أنه كان لأحدهما توجهات مِثلية الجنس، فإن احتمالية أن يكون للآخر نفس التوجهات المِثلية هو 22%، وعند دراسة التوأم المتماثل تبيّن أنه إذا كان أحدهما مِثلي الجنس فإن احتمالية أن يكون للآخر نفس التوجه الجنسي ترتفع إلى 52%!
مثل هذه الدراسة تُلقي الضوء على أحد العوامل الهامة المُسببة للمِثلية الجنسية؛ وهي الجينات، لأن التوأم المتماثل أقرب جينيًا إلى بعضهما البعض من التوأم المختلف.
في دراسة أخرى تمت على أكثر من 114 عائلة من عائلات أشخاص أصحاب توجهات مثلية، تبيَّن أن معدلات وراثة نفس التوجهات الجنسية المثلية في عائلة الأم أكثر منها في عائلة الأب، مما فتح المجال لدراسة أخرى تُفسِّر العلاقة بين كروموسوم X الخاص بالأم والتوجهات المِثلية للذكور، واتضح بالفعل وجود عدّة مواقع على كروموسوم X تتحكم في التوجه الجنسي للذكور، تنتقل من الأم للجنين في مراحل التكوين الأولى له داخل الرَّحِم مسببة هذا التوجه الجنسي.
ويرجع ذلك لأن جسم الأم يتعامل مع كروموسوم Y القادم من الأب على أنه جسيم غريب، فيعمل على إفراز جسيمات مضادة له ومهاجمته، ومع ولادة الأم لعدة ذكور، تزداد قوة مهاجمة هذه الجسيمات لهرمونات الذكورة، مسببة التوجه المثلي للطفل.في الأسابيع الأولى تتكون جميع الأجنة بنفس الطريقة، لو لم يتغير شيء، سيولد الجنين كأنثى، ولكن عندما يبدأ كروموسوم Y في العمل، يبدأ في الأسبوع السادس بتكوين الخصيتين، وبدورهما تقومان بتكوين هرمون الذكورة التستوستيرون، في الأسبوع الثامن يبدأ إفراز الهرمون، ويكون هو المسؤول عن إظهار صفات الذكورة على الجسم، وتؤثر هذه العملية في مراحل تكوين المخ الأولى، بما في ذلك المهاد (Hypothalamus) الذي يتحكم بشكل جزئي في تحديد ما يجده الشخص جذّابًا ومثيرًا جنسيًا.
تقترح بعض الدراسات نظرية تقول: كلما زاد تعرض مهاد المخ إلى إفرازات هرمون التستوستيرون، كلما زاد ميل الذكر إلى الأنثى، ولكن في حالة المِثلية الجنسية، يمتص الجنين ما يكفي من هرمون الذكورة ليشكل جسده كذكر، ولكن مخه لم يتعرض للقدر الكافي لتغيير ما بدأ عليه، وهو الميل الجنسي تجاه الذكور، فيولد الطفل بجسم ذكوري كامل، ولكن بتوجهات جنسية مختلفة.
العوامل النفسية قد لا تكون العامل الوحيد في توجه الشخص للمثلية، فبعضهم يولد كذلك بالفعل كما تم الشرح مسبقًا، لكن ما رأي علم النفس في المثلية الجنسية؟• تاريخيًا:
قديمًا، كانت توصف بأنها غير طبيعية من قبل المؤسسات الدينية والحكومات، وتم اعتبارها شذوذًا لأنها لا تؤدي إلى إنتاج نسل، وكانت تُقابل بالأحكام القاسية تصل إلى الإعدام.
تم إدراج “العلاج الديني” في مراحل لاحقة كوسيلة لـ “إصلاح” المثليين قبل أن يُفرض عليهم العقاب.
في بدايات القرن التاسع عشر، بدأ الخلاف بين الدين وعلم النفس، وتحولت المسألة من كونها “خطيئة” إلى “مرض”، وهو تحوُّل محوري، إذ لا يمكن لوم شخص على شيء لم يختره.
• رأي علماء النفس قديمًا:
ريتشارد فون كرافت إيبنج اعتبرها علة نفسية،
بينما سيغموند فرويد وهافلوك إليس كانا أكثر تقبلًا.
إليس (1901): قال إن الميول المثلية تولد مع الشخص، ولا يمكن اعتبارها غير أخلاقية أو مرضية.
فرويد: اعتبر أن كل البشر ثنائيون بالفطرة، وتحدد ميولهم لاحقًا، وقال في خطاب (1935):
“المثلية ليست ميزة لكنها ليست عارًا أيضًا… الكثير من العظماء كانوا مثليين (أفلاطون، مايكل أنجلو…) ومن الظلم أن نعتبر المثلية جريمة.”
رفض بعض المحللين مثل “ساندور رادو” فرضية فرويد، وزعم أن العلاقة مع الجنس الآخر هي الطبيعية، وأن المثلية محاولة تعويضية لتحقيق المتعة عندما تمثل العلاقة مع الجنس الآخر تهديدًا.جادل آخرون بأن المثلية ناتجة عن علاقات أسرية مرضية في سن ما قبل الأوديب (4-5 سنوات).
• التحيز في التحليل النفسي:
كانت دراسات التحليل النفسي تعتمد على مرضى معروفين كمثليين، مما يخلق تحيزًا في التقييم. كما أن المحللين كانوا يحملون توجهات شخصية ضد المثلية. ولم تُستخدم تجارب معماة علميًا (Double-blind experiments) لضمان الحياد.
• مشكلة العينة:
الدراسات اعتمدت على مرضى يسعون للعلاج، فلا يمكن تعميم النتائج على جميع المثليين. تمامًا كما لا يمكن دراسة المغايرين من بين المرضى النفسيين فقط.
• ألفريد كينسي:
تبنى موقفًا علميًا تجريبيًا ووضع سلم كينسي، وأظهر أن عددًا كبيرًا من المشاركين مارسوا سلوكًا مثليًا، وأن النسبة أعلى مما كان يُعتقد. وأثار ذلك شكوكًا حول الاعتقاد بأن المثلية نادرة.
وجد الباحثان “فورد” و”بيتش” (1951) أن السلوك المثلي موجود على نطاق واسع في المجتمعات البشرية وغير البشرية، وكان مقبولًا اجتماعيًا في 64٪ من 76 مجتمعًا تمت دراسته.• إيفلين هوكر (1957):
دراستها كانت نقطة تحول، حيث اختبرت رجالًا مثليين ومغايرين لا يخضعون للعلاج النفسي، وطلبت من خبراء تقييمهم دون معرفة ميولهم.
أجرت ثلاثة اختبارات (رورشاخ، TAT، MAPS) على 30 مثليًا و30 مغايرًا. وكانت النتائج:
– لم يستطع الخبراء التمييز بين المثليين والمغايرين.
– ثلثي المثليين كانوا في أعلى درجات التكيف النفسي مثل المغايرين.
– لم تكن هناك فروق ذات دلالة في اختبارات الإدراك أو القصة المصورة.
استنتجت هوكر أن المثلية ليست مرضًا نفسيًا. وقد دعمت أبحاث لاحقة نتائجها، مثل دراسة “فريدمان” (1971) على النساء.
الدراسات التي زعمت أن المثلية مرض، كانت تعاني من مشاكل منهجية (عينة من السجون، غياب الحياد، تحامل الباحثين…).
في مراجعة لـ “جون جونسيوريك” (1982) شملت الدراسات التي قارنت المثليين بالمغايرين باستخدام اختبارات نفسية، وجد أنه رغم وجود بعض الفروق، فإن كلا المجموعتين سجلتا نتائج ضمن المعدل الطبيعي.خلاصة قوله:
“المثلية الجنسية في حد ذاتها ليس لها علاقة بالاضطرابات النفسية أو عدم التكيف. المثليون كمجموعة لا يمكن اعتبارهم مختلين نفسيًا بسبب ميولهم الجنسية.”
• حذف المثلية من التصنيفات المرضية:
في 1973، وبناءً على الأدلة العلمية وتغير المواقف المجتمعية، أزالت الجمعية الأمريكية للطب النفسي المثلية من دليلها التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM).
وقد تم التصديق رسميًا على القرار في 1974، وتبعته خطوة إضافية في 1986 بإلغاء كامل لأي توصيف مرضي للمثلية.
• موقف جمعية علم النفس الأمريكية:
دعمت القرار، وأكدت أن المثلية ليست مرضًا نفسيًا، وعملت على محاربة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بها.
• خلاصة:
رغم بقاء مواقف سلبية لدى بعض المختصين، فإن الأدلة العلمية لا تدعم فكرة أن المثلية اضطراب نفسي. المثليون ليسوا مرضى بسبب ميولهم، لكن الضغط المجتمعي يمكن أن يؤدي إلى معاناة نفسية.
تشير الدراسات إلى أن أفراد الأقليات الجنسية قد يكونون أكثر عرضة للاكتئاب والقلق بسبب التمييز والتحامل، لا بسبب ميولهم نفسها.
رغم أن معظمهم متكيفون نفسيًا، فإن الضغط المجتمعي يمكن أن يسبب اضطرابات لدى البعض.• إجابة على أسئلة شائعة:
– هل المثلية اضطراب نفسي؟
لا. تم حذفها من التصنيفات الطبية بناءً على الأدلة.
– هل لها علاج؟
لا، لأنها ليست مرضًا. كل ما يُروّج عن “علاج” هو خرافات وأكاذيب.
– ماذا عن الانتخاب الطبيعي؟
الجينات المسببة قد تنتقل عبر الأم وتفيدها، لكنها تؤدي إلى توجه مثلي لدى الذكر.
– لماذا لم تختف؟
لأن الطفل المثلي قد يحمل جينات X من الأم ولا تتأثر استمراريتها حتى لو لم يتكاثر بنفسه.
– هل العلاجات الإصلاحية فعالة؟
لا. وأغلب من روج لها تراجع لاحقًا. الأضرار النفسية الناتجة عنها جسيمة. دور المعالج هو مساعدة الشخص على التقبل وليس تغييره.
الخلاصة:
المثلية ليست مرضًا. وليست خيارًا. بل جزء من تنوع طبيعي في التوجهات الجنسية. التغيير الحقيقي يبدأ بإلغاء الوصمة، ونشر الوعي، وإنهاء التمييز.
إعداد الجانب العضوي: Muhammad Tharwat & Michael M. Louis
إعداد الجانب النفسي: Eslam Samy
مراجعة لغوية: Ahmed Reda
