مقدّمة: في هذا المقال، نسلّط الضوء على قضية تثير الكثير من الجدل في تونس حول حرية التعبير، وحدود المزاح على شبكات التواصل الاجتماعي، وكيف يمكن أن تتحول منشورات بسيطة إلى ملفات قضائية معقّدة.
تهديد الدولة التونسية للسلامة الجسدية والنفسية للملحدين واللادينيين
تتعلق وقائع القضية بإدانة المدونة على مواقع التواصل الإجتماعي “آمنة الشرقي” وذلك لنشرها لصورة شبيهة من حيث الشكل بسور القرآن تحت عنوان “سورة كورونا” يتمثل محتواها في نص مرقم في شكل أبيات شبيهة بآيات القرآن من حيث الكلام الموزون والأسلوب اللغوي.
لكن المتهمة صرحت بأنها لم تقم بكتابة النص المذكور فهي ليست ضليعة في اللغة العربية بل شاهدت الصورة بإحدى الصفحات الإلكترونية على موقع التواصل الإجتماعي “فايسبوك” فقامت بنشرها على حسابها الشخصي بهدف التسلية مع أصدقائها. كما نفت أي نية لها في التحريض أو الدعوة للعنف أو التفرقة أو الاستهزاء من القرآن أو الإساءة لأي معتقد ديني.
“وحيث أن اتيان الأفعال من قبل المتهمة مع علمها الجازم بأنها أفعال يحظرها القانون الجزائي ويرتب لفاعلها عقابا جزائيا يجعل الركن المعنوي ثابتا في جانبها مما يتجه معه مؤاخذتها بجرمها وتسليط عقاب جزائي رادع لها”.
هل أن استعمال شبكات التواصل الإجتماعي للتسلية ونشر تدوينات “أفعال يحظرها القانون الجزائي”؟
كل ماقامت به المتهمة يتمثل في استعمال عادي لمواقع التواصل الإجتماعي التي يمكن من خلالها نشر مدونات للتسلية أو ذات طابع تثقيفي أو علمي أو للتسويق لمنتوج معين. ثم إن نشرها للمدونة لا يستهدف احداث ضرر للغير أو الدعوة للعنف والكراهية ضد شخص أو مجموعة معينة. اذ لا وجود لضحية تضررت من جراء ما نشرته آمنة الشرقي. وفي المقابل توجد الآلاف من المنشورات الشبيهة بما نشرته المتهمة فهل ستقوم النيابة العمومية بتسليط الرقابة على كل ما ينشره المواطنون؟ وفي كل الحالات فإن الرقابة على مواقع التواصل الإجتماعي هو بمثابة التحكم في أفكار وآراء الأفراد ومصادرة حريتهم في التعبير بل أكثر من ذلك، هذا التدخل هو انتهاك لحرمة الحياة الخاصة المضمونة بالدستور وبالمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس. وكأن الدولة التونسية تفرض طريقة معينة ((mode d’emploi لاستعمال الفايسبوك، لا بد من التذكير بأن إدارة الفايسبوك تضع قواعد للإستعمال يعتمدها رواد هذا الموقع وفي حالة نشر أفكار عنصرية أو دعوة للكراهية فإن الصفحة أو الحساب الذي يستعمله المستخدم يقع حجبه وهو ما لم يحصل للمنشور موضوع النزاع.
وجهت للمدونة تهمة تتعلق بجريمة الدعوة إلى الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان وذلك بالتحريض على التمييز واستعمال الوسائل العدائية.
“وحيث أن الفعل الصادر عن المتهمة من شأنه التأثير على الآخرين ودفعهم إلى إتيان سلوكيات معينة على غرار التهديد أو العنف وفي ذلك حث على التمييز العنصري على أساس ديني ودعوة واضحة إلى الكراهية الأديان.”
“وحيث أنه في استعمال المتهمة لتلك الصورة بالشكل الذي يشبه سورة من سور القرآن مع اعترافها بحثا وجلسة بأن ذلك كان على سبيل المزاح مع أصدقائها ما يقيم الدليل على أن غايتها من ذلك هي الازدراء والمقت للدين الإسلامي الذي دستوره القرآن الكريم وهو ما يعتبر دعوة من قبلها إلى الكراهية بين الأديان.”
قبل التعليق على هذه الحيثية لا بد من تعريف خطاب الكراهية.
في عام 1997 أصدر مجلس أوروبا توصية بشأن خطاب الكراهية الذي يعرفه بأنه “جميع أشكال التعبير التي تنشر أو تحرض أو تروج أو تبرر الكراهية العنصرية أو كراهية الأجانب أو معاداة السامية أو غير ذلك من أشكال الكراهية القائمة على التعصب” كما تُعرِّف استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة لعام 2019 بشأن خطاب الكراهية أنه اتصال “يهاجم أو يستخدم لغة تحقيرية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس هويتهم ، بمعنى آخر ، بناءً على دينهم وعرقهم. أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو الجنس أو أي عامل هوية آخر”.
ما يثير الانتباه في قضية الحال هو استعمال عبارة “التأثير على الآخرين”. فبالرغم من أن المتهمة صرحت بأن النشر كان على سبيل المزاح وبطريقة عفوية مع أصدقائها وليس على نطاق واسع للعموم. إلا أن القاضي اعتبر المزاح دعوة إلى الكراهية بين الأديان ولا وجود لعبارات تهديد أو عنف تجاه مجموعة دينية معينة على صفحتها وهو المعيار الأول في تعريف خطاب الكراهية ألا وهو استهداف أشخاص أو مجموعة معينة.
ثم إن ما تطلق عليه المحكمة “وسائل عدائية” خال من الصحة اذ حتى توصف هذه الوسائل بالعدائية لا بد من توفر عنصري النشر والتحريض كما ورد بالتعريف. إلا نشر مدونة في مواقع التواصل الإجتماعي ليس بوسيلة عدائية اذ لا يهدف النشر للإضرار بالغير أو تجييش الرأي العام ضد المؤمنين بدين معين.
أما في ما يتعلق بالفصل 50 من المرسوم عدد 115 الذي أشارت إليه المحكمة في قضية الحال والذي يستعمل عبارة “كل من يحرض مباشرة شخصا أو عدة أشخاص” فإن المتهمة لم تحرض أشخاصا ولم تقم بنشر مدونتها على نطاق واسع بل نشرتها مع أصدقائها على سبيل المزاح وهو ما ينفي كون صفحتها الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي فايسبوك من بين الوسائل المعتمدة في نشر الأخبار للعموم كوسائل الاتصال السمعي البصري. اذ تعني هذه الأخيرة طبقا لمرسوم عدد 116 لسنة 2011 مؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري “كل عملية وضع على ذمة العموم لخدمات إذاعية أو تلفزية كيفما كانت طريقة تقديمها”. وتهدف الإعلام أي كل عملية نقل خبر أو معلومة أو وجهة نظر أو فكرة بغاية إكساب معرفة. لكن المتهمة لم تستعمل صفحتها على موقع التواصل الإجتماعي لنقل أو لنشر معلومات أو أخبار موجهة للعموم.
ولتأكيد هذه الفكرة أقرت محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 3 جانفي 2018 أن: “شبكات التواصل الاجتماعي لا تعد وسيلة إعلام الكترونية على معنى المرسوم عدد 115 بالنظر إلى انحصار الاطلاع على الصفحات المنشورة على المواقع في عدد محدود من الأفراد لهم علاقة بعضهم بالبعض الآخر ولم يكن القصد من احداث تلك الصفحات النشر الواسع للمعلومات والأخبار للعموم”.
كما أن حرية الرأي والتعبير مضمونة في الفصل 31 من الدستور الذي ينص على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”. وقد نص الفصل 49 من الدستور أن “القانون يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بالدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها” وهو ما يعني أن أي تقييد لحرية التعبير يجب أن يكون استثناءً لا قاعدة، وأن يكون ضروريا ومتناسبا مع الهدف المشروع المراد تحقيقه.
من هذا المنطلق، فإن تجريم المزاح أو السخرية أو النقد، حتى لو تعلق الأمر بمعتقدات دينية، يجب أن يوازن بين حماية المعتقد وحرية التعبير، خاصة إذا لم يتضمن المحتوى دعوة صريحة إلى العنف أو الكراهية ضد مجموعة معينة.
كما أن تونس صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ينص في الفصل 19 على أن لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق “حرية التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها”.
ويشير العهد أيضا في الفصل 20 إلى أنه “تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف”. وهنا يظهر الفرق الجوهري بين النقد أو السخرية أو المزاح وبين التحريض الفعلي على الكراهية أو العنف.
في حالة آمنة الشرقي، لم يتم إثبات وجود أي تحريض أو دعوة مباشرة للكراهية أو العنف. كل ما في الأمر أنها أعادت نشر نص ساخر رآه البعض مسيئاً، لكنها أوضحت أنها فعلت ذلك على سبيل المزاح مع دائرة محدودة من أصدقائها. ومع ذلك، تعاملت السلطات القضائية مع الأمر وكأنه اعتداء خطير على الدين الإسلامي يستوجب العقاب.
إن خطورة مثل هذه الممارسات القضائية تكمن في خلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية بين المواطنين، بحيث يتجنبون التعبير عن آرائهم أو حتى المزاح حول مواضيع معينة خشية الملاحقة القانونية. وهذا يتعارض مع جوهر الدولة الديمقراطية التي تقوم على حرية التعبير وتعددية الآراء.
كما أن التركيز على مثل هذه القضايا يشتت الانتباه عن القضايا الحقيقية التي تمس حياة المواطنين اليومية مثل الفساد، البطالة، الوضع الاقتصادي المتدهور، وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة.
وفي النهاية، فإن قضية آمنة الشرقي ليست مجرد قضية فردية، بل هي اختبار حقيقي لقدرة تونس على احترام التزاماتها الدستورية والدولية في مجال حقوق الإنسان، وخاصة حرية التعبير.
إن الدفاع عن حرية التعبير لا يعني بالضرورة الموافقة على كل ما يُقال أو يُكتب، بل يعني الدفاع عن حق الآخرين في التعبير عن آرائهم حتى وإن اختلفنا معهم أو شعرنا بالاستفزاز مما يقولونه. فحرية التعبير تُختبر في المواقف الصعبة، حين يتعلق الأمر بآراء أو أفكار مثيرة للجدل أو صادمة للبعض.
في هذا السياق، يجب على القضاء التونسي أن يميز بين التعبير المشروع، مهما كان جريئاً أو ساخراً، وبين الخطاب الذي يحرض بشكل مباشر وواضح على الكراهية أو العنف. فالخلط بين الاثنين يضر بحقوق الإنسان ويضعف الثقة في مؤسسات الدولة.
كما يجب على الدولة التونسية أن تفي بالتزاماتها الدولية في مجال حماية حرية التعبير، وأن تضمن ألا تُستخدم القوانين لتكميم الأفواه أو لمعاقبة الأفراد بسبب آرائهم أو مزاحهم أو انتقاداتهم. هذا هو السبيل الوحيد لبناء مجتمع ديمقراطي حقيقي يقوم على التعددية واحترام الحقوق والحريات.
قضية آمنة الشرقي تسلط الضوء على الحاجة الملحة لإصلاحات قانونية تضمن حماية حرية التعبير، وتضع حداً لاستخدام النصوص القانونية الفضفاضة لمعاقبة الأفراد على مجرد التعبير عن آرائهم. كما أنها دعوة للمجتمع المدني، والنشطاء، والمثقفين، والفنانين، للوقوف صفاً واحداً في مواجهة أي محاولة للحد من هذه الحرية الأساسية.
كلمة أخيرة
حرية التعبير ليست امتيازاً تمنحه الدولة، بل حق أساسي يولد مع كل إنسان. الدفاع عن هذا الحق هو دفاع عن كرامتنا جميعاً، وعن حقنا في أن نحلم، وننتقد، ونمزح، ونبدع، دون خوف من الملاحقة أو القمع.